بقلم // علي المؤمن
تنبع أهمية الزعيم الإسلامي الشيعي الراحل السيد محمد باقر الحكيم؛ من الخصائص الشخصية والموضوعية التي ميزته؛ فبرغم وجود شخصيات إسلامية سياسية عراقية بارزة عاصرت حركته، إلا أن الحكيم كان خلال مرحلة ما بعد سقوط دولة البعث في العام 2003، يمتلك مميزات قائد المرحلة، كما كان ضماناً لتصاعد قوة الواقع الشيعي العراقي عموماً، والتيار الإسلامي فيه خصوصاً. وقد لا يكون الحكيم قائداً لمرحلة سابقة بالميزات نفسها؛ لأن عودته الى حاضنته الإجتماعية الدينية التقليدية (النجف الأشرف) أعادت له ما تبقى من عناصر القوة الإجتماعية الدينية التي كان من الطبيعي أن تفقد جزءاً من وهجها في المهجر.
لقد كان يمكن للأعوام التي أعقبت سقوط النظام الطائفي العنصري؛ أن تكون الأعوام العراقية التي يقودها الحكيم، والتي سيؤثر خلالها ليس في مصير الشيعة العراقيين وحسب، بل في مصير العراق برمته ونظامه السياسي ودستوره وحكومته المنتخبة، لكن اغتياله حال دون ذلك. فقد بدأ آية الله السيد محمد باقر الحكيم إستراتيجيته الجديدة بوضوح في مؤتمر المعارضة العراقية في لندن العام 2002، واستمر بتنفيذها مع سقوط نظام صدام حسين وتشكيل مجلس الحكم العراقي وما تلاه من خطوات أثرت في اتجاهات الاحتلال الأمريكي وفي الواقع السياسي العراقي الجديد.
وباغتيال السيد الحكيم، تصدع مشروعه بشدة. ولا أقصد هنا مشروع المجلس الأعلى الإسلامي؛ فالمجلس لم يعد بحجم السيد الحكيم بعد عودة الأخير إلى العراق، إذ بات الحكيم بحجم العراق، وتحول المجلس إلى جهاز لتنفيذ مشروعه السياسي.
في مؤتمر لندن، وبرغم ما قيل عن احتكار المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق لمعظم مقاعد الإسلاميين الشيعة؛ فان السيد محمد باقر الحكيم فرض على المؤتمر وراعيه زلماي خليل زاد النسبة التي تنسجم مع نسبة الشيعة في العراق (65% من عدد السكان) ومع ثقل المعارضة الإسلامية الشيعية، وذلك من المقاعد في لجنة المتابعة والتنسيق وغيرها من اللجان. وظلت هذه النسبة معتمدة في المؤتمرات اللاحقة (مؤتمر أربيل مثلاً في عام 2003) وفي مجمل العملية السياسية بعد سقوط نظام صدام، والتي تحولت إلى أمر واقع رضخ له المحتلون أيضاً.
وخلال عملية الغزو الأمريكي للعراق، كان صوت آية الله الحكيم هو الأكثر تأثيراً داخل العراق وخارجه، فقد أثّر موقف الحياد الايجابي الذي اتخذه حيال معركة الأمريكان مع دولة صدام حسين تأثيراً كبيراً في تجنيب الشيعة المحرقة، والتي دعمها الموقف المشترك للقوى الإسلامية الرئيسة، وتحديداً حزب الدعوة الإسلامية، استناداً الى موقف المرجعية الدينية النجفية.
وبعد سقوط نظام صدام، لم يكن الأمريكان يخفون هواجسهم من عودة الحكيم إلى العراق؛ بالنظر لموقفه الرافض للاحتلال ومشروعه. ولعله كان القيادي العراقي المعارض الوحيد الذي كان الاحتلال يترقب عودته بتوجس. ولكنه عاد كأمر واقع أذعن له الأمريكان خلال تفاوضهم الطويل مع مسؤولي المجلس الأعلى. وكانت عودته إلى العراق حدثاً سياسياً لافتاً، فقد استقبله العراقيون في الجنوب والوسط (المناطق التي مر بها في طريقه إلى النجف الأشرف) استقبال حافلاً.
*مواجهة الإرث العراقي والإحتلال:*
لقد عمل السيد محمد باقر الحكيم خلال عامي 2002 و2003 على مواجهة مشروعين أساسيين في العراق، لا يزالان يقضان مضاجع العراقيين، والشيعة تحديداً:
1- مشروع الحفاظ على الموروث السياسي والقانوني للدولة العراقية ونظامها السياسي ونخبتها الحاكمة. وهي دولة تتلخص في حكم النخبة التي تنتمي إلى الأقلية السنية العربية 16% من عدد سكان العراق.
2- مشروع الاحتلال الأمريكي وتبعاته السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وهو مشروع يهدف إلى إعادة بناء العراق وإنسانه، وصولاً إلى المنطقة الإسلامية برمتها.
وطرح آية الله الحكيم في المقابل مشروعين بديلين:
1- مشروع بناء الدولة العراقية ونظامها السياسي ودستورها؛ على أساس الاستقلال ورفض التبعية للخارج بكل أشكالها، ورفض الاستبداد والطغيان والدكتاتورية، واستثمار آليات الديمقراطية وتحقيق العدالة و رفض كل ألوان التمييز القومي والطائفي، وتطبيق مفهوم المواطنة العراقية المتساوية في الحقوق والواجبات، والاحتكام الى الشريعة الإسلامية وأحكامها في مجالات الحياة كافة، وأن العراق دولة عربية مسلمة، وما يترتب على ذلك من مبادئ وأصول. وكان حازماً بشكل لافت في طرح هذا المشروع. وظل الحكيم يعمل على منع أية مضاعفات طائفية وقومية قد تنشأ جراء ذلك؛ بالنظر لما يحظى به من مقبولية من الأكراد والعرب السنة من غير المرتبطين بالنظام السابق.
2- مشروع مقاومة الاحتلال الأمريكي بكل الوسائل، إلا انه لم يرجح المقاومة المسلحة في تلك المرحلة، وكان يرى أن أولوية المرحلة تكمن في المقاومة السياسية والإعلامية والمدنية، سواء من داخل السلطة المتعاملة مع الاحتلال أو من خارجها.
وكان مشروعه كما عبّر عنه في ممارساته السياسية وخطبه، ولاسيما خطب صلاة الجمعة في حرم الإمام علي (عليه السلام)، مستوعباً الخطورة الشديدة التي يتضمنها المشروع الأمريكي في العراق، وعلى المستويات كافة. ولذا لم يكن يتردد في مهاجمة الأمريكان في اللقاءات الخاصة والعامة. وفي المقابل لم يكن الأمريكان يخفون انزعاجهم منه، برغم اضطرارهم التعامل الايجابي مع ممثليه، ولاسيما ممثله في مجلس الحكم المرحوم السيد عبد العزيز الحكيم.
*المتضررون من غياب السيد الحكيم:*
قبل الوقوف على طبيعة دوافع الجهات المستفيدة من غياب السيد محمد باقر الحكيم؛ نشير إلى الجهات الخاسرة منه؛ أي الجهات التي تضررت بشدة جراء غياب الحكيم عن المسرح السياسي في العراق:
1- شيعة العراق: ولا سيما المشروع السياسي الإسلامي الشيعي؛ فمقتل الحكيم وجّه ضربة قوية لشيعة العراق ومشروعهم، سواء الخاص بمقاومة الاحتلال أو بناء الدولة العراقية الجديدة على أسس مختلفة كليا عن الأسس التي بني عليها مشروع السلطة الطائفية في العراق منذ حوالي 1350 عاما. وهكذا وقع اغتيال آية الله السيد محمد باقر الحكيم في مرحلة حرجة للغاية، بل في أشد المنعطفات التاريخية أهمية بالنسبة للعراق عموما والشيعة خصوصا. ولعل هذا المنعطف الذي مثَل مرحلة حصاد سني العمل والجهد، وقطاف التجربة وإعادة بناء العراق؛ يقارب في خطورته المنعطف الذي خلقه غياب السيد محمد باقر الصدر في العام 1980. ومن هنا؛ شكّل غياب الحكيم كارثة سياسية على الشيعة.
2- إيران: ولا سيما العلاقات بين شيعة إيران وشيعة العراق؛ فمشروع السيد الحكيم المعتدل كان يمثل منتهى القبول في مختلف الأوساط الإيرانية، سواء الدينية أو السياسية، وكان يحظى باحترامها؛ بل كان الحكيم من أهم الشخصيات الإسلامية العربية التي دعمت مشروع الجمهورية الإسلامية الإيرانية على أكثر من مستوى، من منطلق إيمانه الفقهي والعقائدي بالقواعد التي قامت عليها الجمهورية الإسلامية، إضافة إلى ساحة معارضتهما المشتركة لنظام البعث منذ العام 1979، أي أنها علاقة دعم متبادل وإيمان مشترك بالآخر. وبالتالي وجّه غياب السيد الحكيم ضربة قوية إلى الجمهورية الإسلامية الإيرانية ومشروعها، بالمقاييس السياسية والمعنوية، والى رؤيتها للوضع العراقي، والى العلاقات الإيرانية – العراقية.
3- شيعة الدول العربية: فقد كان السيد محمد باقر الحكيم زعيماً وفقيهاً شيعياً عربياً، يقيم في الموطن التقليدي للحوزة العلمية، وكان من شأن تكريس موقعه القيادي الديني والسياسي في العراق إعطاء دفع سياسي كبير للشيعة في البلدان العربية، ولا سيما في المنطقة الخليجية؛ بصيغة لا يكون معها مرفوضاً حتى من قبل حكوماتها؛ بالنظر لعلاقة الاحترام المتبادل التي تربطه بهذه الدول، وإدراكها أهمية الدور التوجيهي المتوازن الذي يمكن أن يمارسه السيد الحكيم في رعاية الواقع الشيعي.
4- دعاة التقارب السني ـ الشيعي: فالسيد الحكيم عمل منذ بداية الثمانينات على دعم مشاريع التقارب السني – الشيعي، والوحدة الإسلامية، سواء على مستوى العراق والعالم الإسلامي. وكانت أطروحة المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، التي تحولت فيما بعد إلى مشروعه الخاص، تستوعب الإسلاميين السنة العراقيين أيضاً، منذ إنشائه في العام 1982. كما لم يكن انتخاب السيد الحكيم في العام 1992 رئيساً للمجلس الأعلى للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، والذي يضم في عضويته عدداً كبيراً من نخب علماء المسلمين السنة والشيعة من مختلف البلدان الإسلامية، صادراً من فراغ؛ بل لما عرف عن الحكيم من شخصية إسلامية وحدودية معتدلة، ولعلاقته الوثيقة بعلماء الدين والمفكرين الإسلاميين السنة في العراق والبلدان الإسلامية الأخرى. وكان من شأن استمرار السيد الحكيم في تطبيق رؤاه الوحدوية؛ تفتيت محاولات تمزيق النسيج العراقي طائفياً ومحاولات تكريس سوء الفهم بين الخطاب الإسلامي الشيعي العراقي والخطاب الإسلامي السني العربي.
*الجهات المستفيدة من غياب السيد الحكيم:*
كان اغتيال السيد محمد باقر الحكيم ((ضربة في العمق))؛ فمن خلالها حقق المستفيدون كثيراً من أهدافهم. وبصرف النظر عن الجهة التي تقف وراء اغتيال السيد الحكيم؛ سواء جماعة القاعدة وفقاً لاعتراف الزرقاوي أو بقايا النظام البعثي السابق أو جهات أميركية وفقاً للتحليلات؛ فإن الأهداف الرئيسة لقتل السيد الحكيم تعبِّر عنها توجهات المستفيدين من ذلك. ولعل منها:
1- الثأر الشخصي من السيد الحكيم؛ لأنه ظل طوال اثنين وعشرين عاماً أهم قيادي معارض لنظام صدام، وكانت مساهمته أساسية في ضرب دعائم النظام السياسي العراقي.
2- إحداث فراغ قيادي في الوسط الإسلامي الشيعي، وإضعاف الشيعة ومشروعهم السياسي.
3- إشعال فتنة طائفية بين سنة العراق وشيعته.
4- إضعاف العلاقات الشيعية الإيرانية ــ العراقية، ومشروع التعاون الإسلامي الشيعي العراقي ــ الإيراني. 5- إزاحة عقبة أساسية أمام المشروع الأميركي الشامل في العراق.
هذه الأهداف تعبر عنها توجهات عدد من الجهات المستفيدة من غياب السيد الحكيم، وهم أصحاب المشاريع الثلاثة التي سبق الحديث عنها:
أ- مشروع التمسك بالموروث السياسي والقانوني للدولة العراقية، أي حكم النخبة التي تنتمي إلى الأقلية السكانية. ويتمثل هذا المشروع في تيارين:
ب- حزب البعث وبقايا النظام البعثي السابق وبعض الطائفيين القوميين المتحالفين معه. هذه التيار مستفيد استراتيجياً من غياب السيد الحكيم، فضلاً عن أن ذلك يعبر عن ثأر قديم ـ جديد.
ت- الجماعات السلفية التكفيرية، سواء المتحالفة مع حزب البعث والطائفيين القوميين أو التي تعمل بشكل مستقل. وأهم هذه الجماعات تنظيم “القاعدة” الذي يقوده أبو مصعب الزرقاوي، و الذي أعلن مسؤوليته المباشرة عن اغتيال السيد محمد باقر الحكيم في رسالته التي نشرها خلال نيسان/ ابريل 2004.
ث- مشروع الإحتلال الأميركي ـ البريطاني، وعملائه وأدواته المحليين. فالولايات المتحدة الأميركية ربما هي المستفيد الأبرز على المستوى الستراتيجي، حتى لو لم تكن على علاقة بالاغتيال؛ لأن السيد الحكيم كان يجاهر برفضه الكامل لمشروع الإحتلال الأميركي ـ البريطاني، ويحرِّم أي تعاون معه. ولم يكن المحتلون يخشون بقايا النظام السابق والجماعات التكفيرية بقدر خشيتهم من حركة السيد الحكيم خصوصاً، والإسلاميين الشيعة عموما.
ج- مشروع بعض الجماعات والشخصيات السياسية العراقية الجديدة التي اخترقت العملية السياسية بعد سقوط نظام صدام. هذه الجماعات ظلت رافضة للتغيير الذي حصل في العراق في العام 2003؛ لكنها اخترقت العملية السياسية فيما بعد، وأصبحت جزءاً منها؛ بهدف تدمير العراق الجديد من الداخل. هذه الجماعات أيقنت بأن ثقل السيد الحكيم وتبنيه مشروع الدولة العراقية الجديدة وتقدمه القافلة السياسية الإسلامية الشيعية؛ يمثل عقبة أمام صعودها السياسي باتجاه هرم السلطة.
لقد كان من المؤكد أن معادلات الواقع العراقي التي تزداد تعقيداً، وتتفاعل في مرجل ضخم يعمل بكل طاقته وعلى مدار الساعة بعد العام 2003؛ ستعمل على تغييب رجلٍ بحجم السيد محمد باقر الحكيم وعقليته وتاثيره. ولذلك لم يكن موضوع اغتيال محمد باقر الحكيم خارج دائرة التوقع؛ لان هناك الكثير ممن كان يهمهم جداً أن لا يبقى الحكيم حاضراً في مشروع إعادة تحديد هوية العراق ومستقبل شعبه، ولا سيما مستقبل الشيعة؛ لأن بقاءه يشكل عائقاً أمام تنفيذ مشروعاتهم.