كتبه // محمد مكي آل عيسى
مع كون حديث الغدير حديثاً متواتراً وله قوّة واعتبار عند أهل هذا العلم لكن قوّته لا تكمن في عدد رواته فقط وإن كان عددهم بلغ مئة وعشرة من الصحابة وأربعة وثمانين من التابعين.
نعم فهو بعدد رواته هذا لا يمكن الطعن بصحته أبداً ولا يمكن اجتماع هذا العدد من الصحابة والتابعين على الكذب لكن هذا الحديث لم تتوقف قوته على رواته وعددهم ووثاقتهم فحسب وإنما هناك أمر آخر وهو صناعة الحدث !
نعم فبوحي منه تعالى قام رسول الله صلى الله عليه وآله بصناعة حدث ، فلم يكتف بإلقاء ما يريد بل اختار عناصر الزمان والمكان والأسلوب ليوصل الفكرة .
لقد اتبع صوات الله عليه وآله أحدث أساليب إيصال الفكرة في يوم الغدير . . نلاحظ اليوم وعلى وسائل التواصل أن هناك إعلانات تنشر لغرض دعائي أو ثقافي لكنها تصاغ بأن هناك حدث (event) ، فمثلاً يدعو المؤلّف لحفل لتوقيع كتاب جديد له ليصنع حدثاً يوثق ويروج لكتابه ، ويدعو المنتجون لحفل مشاهدة الفلم الجديد قبل عرضه ليصنعوا حدثاً وهكذا . .
فالحدث فيه ميزة وهي أن المعلومة والفكرة لن تدخل إلى المتلقّي من خلال حاسّة السمع وبالطريقة المباشرة المعروفة فحسب وإنما بالسيطرة على جميع حواسّه من صمع وبصر وغيرها فالمتلقّي سيعيش الحدث ويتغلغل الحدث في وجدانه وكل أحاسيسه سيكون بكل كيانه داخل الحدث حتى يشعر بنفسه أنه جزء من الحدث بل أنه بحضوره وتواجده قد شارك بصنع الحدث.
ورسول الحق صلوات الله عليه وآله وبوحي من الحق المتعال ولأهمّية أمر الغدير عمل على صنع حدث يعيشه المسلمون معه بتفاصيله فباختياره منطقة حارّة في وقت قد توجّه الحجّاج للعودة لبيوتهم ، ينتظر المتأخر ويأمر المتقدم بالرجوع ويدعو لإقامة دوحات (مظلّات) ويأمر أن تكنس وتنظّف ( فقُمِّمْن كما في الرواية ) وأن توضع أقتاب الأبل بعضها على بعض يتشكل منبرا مرتفعا وتضيف بعض الروايات انه أمرهم بحمل الحصباء (الحصى) بأيديهم !؟
الحصى في الصحراء تحت حرارة الشمس يكون جمرة بحرارته يحملونه بأيديهم لكي تكتوي أيديهم فلا ينسوا ما جرى فإذا نسوا شيئاً فلن ينسوا حرارة الحجر التي تذكّرهم بنار جهنم إن نكثوا .
نصب خيمتان وطلب منهم بعد أن سمعوا أن يأتوا فيبايعوا إقراراً واعترافاً بما سمعوا
فكل ذلك كان حدثاً يتضمّن مواقف متعددة عاشها المسلمون آنذاك ، لم يسمعوها ، لم يشاهدوها كما نشاهد عرضاً مسرحياً ، بل عاشوها وصنعوها ليتغلغل الحدث في النفوس ولا يكون محطّة عابرة تتلاشى ذكراها مع الأيام.
الرسول الأكرم صنع حدثاً لا ينسى ليوصل أهم أمر أنزل إليه من ربه ذلك الأمر الذي إن لم يبلّغه فما بلّغ رسالته.
الرسول الأكرم صنع حدثاً يتلاءم مع ما أمره الله به عندما قال له ( بلّغ ) فالفِعْل ( بلّغ ) لم يأت في القرآن إلّا في هذا الموضع لم يخاطب القرآن الرسول ص بالفعل ( أخبر ) ولا ( نبّئ ) ولا ( قُل ) ولا حتى ( أبلغ ) بل ( بلّغ ) حتى تصل بذلك الرسالة وتبلغ غايتها.
وقد بلغت هذه الرسالة ووصلت ، حتى أصبحت قضية الغدير من أعقد المسائل وأكثرها إشكالاً عند المنكرين لها لأنهم لا يستطيعوا إنكارها أبداً فلجأوا لتأويلها لطمس الرسالة الأساسية التي يحملها هذا الحدث لكنهم كلما حاولوا تأويل جانب انفتق عليهم جانب آخر حالها كحال الركن اليماني كلما أصلحوه عاد ليتصدّع مرّة أخرى معلناً عند حدث آخر عن ولادة صاحب بيعة الغدير في الكعبة البيت الحرام