بقلم// عادل الجبوري
في آخر تصريحات له، وأولها بعد قمة بغداد الثانية التي عقدت في الاردن قبل عدة أيام، قال الرئيس الفرنسي ايمانوئيل ماكرون “هناك مشاريع حيوية للعراق في المياه والكهرباء والغاز والتطور الاقتصادي، بامكاننا مساعدتهم ولديهم حاجات للخروج من التبعية الإيرانية والنفطية. وهذا لن يتم حله في يوم واحد”!
ويضيف ماكرون خلال حوار أجرته معه صحيفة “النهار” اللبنانية “منذ البداية أنا مقتنع بأنه لا يمكننا إيجاد أي حل لمشكلة لبنان والعراق وسوريا إلا في اطار حوار لتقليص التأثير الإقليمي الإيراني، وان الإيرانيين لم يلتزموا بشكل صادق. (هناك تشكيك بصحّة الترجمة) لقد رأينا ابتداء من عام 2019 و2020 ان رئيس الحكومة العراقية السابقة مصطفى الكاظمي يبدي رغبة في التقدم بالعمل. وعلى هذا الأساس وضعنا ابتداء من عام 2020 استراتيجية مع الرئيس السابق برهم صالح والكاظمي، تهدف الى مساعدتهم لتعزيز سيادة العراق. وقالوا لنا بشأن تعزيز هذه السيادة: “نحن بحاجة الى دعم اقتصادي من اجل تعزيز السيادة مع ايران على طاولة المؤتمر، ومساعدتنا لانشاء حلول على أساس مشاريع طاقة ضخمة تساعدنا على الانخراط في اللعبة الإقليمية التي تتيح لنا التحاور مع ايران، ولكن ليس مع ايران وحدها”.
الملفت أن تصريحات ماكرون الجدلية هذه، جاءت بعد وقت قصير جدًا من قمة بغداد الثانية، التي كانت باريس من أشد المتحمسين لعقدها، وأحد الأطراف الرئيسية في تنظيمها، في اطار تعزيز الشراكة والتعاون والتنسيق بين مختلف دول المنطقة، واعتماد لغة الحوار لحل المشاكل والأزمات فيما بينها. وكانت ايران من بين المشاركين فيها وفي القمة الأولى ببغداد أواخر شهر اب-اغسطس من العام الماضي 2021.
كيف يمكن لنا أن نفسر أو نقارب بين طرف يسعي أو يدعي أنه يسعى إلى أن يكون طرفًا مساهمًا في حل المشاكل والأزمات، كما هو الحال مع الرئيس الفرنسي، وفي ذات الوقت يتبنى أطروحات سلبية تكرس الانقسامات والخلافات والتقاطعات بين الفرقاء أو الشركاء؟
واذا كانت قمة بغداد الثانية، قد مثلت فرصة ومناسبة جيدة لتذويب بعض من الجليد بين بعض الأطراف، فإنه ما إن انفض جمع المؤتمرين، حتى انحرف ماكرون الى الاتجاه المعاكس تمامًا.
لم يلتفت ماكرون الى أن ايران كانت منذ الايام الاولى التي أعقبت سقوط نظام صدام قبل أكثر من تسعة عشر عامًا، أكثر الأطراف الاقليمية والدولية الداعمة والمساندة للعراق رغم الكثير من تراكمات الماضي، ورغم الاحتلال الأميركي له، وما أفرزه وما كان يمكن أن يفرزه من أوضاع مرتبكة وتحديات مقلقة على امن العراق وجيرانه.
وهل يجهل ماكرون ان فرنسا تعد من بين اكثر الاطراف الدولية التي تسببت بالكثير من الاذى والضرر للعراقيين، لا سيما في عهد نظام صدام، حينما كانت تقدم له كل اشكال الدعم ليعزز ويقوي نظامه الديكتاتوري الاستبدادي، ناهيك عن الدور الاجرامي الذي لعبته العديد من الشركات الفرنسية في العراق، وقد يكون نقل فايروس نقص المناعة المكتسبة (الايدز) اليه، واصابة الكثير من المواطنين العراقيين به، احد المصاديق على ذلك.
وبعد سقوط نظام صدام في عام 2003، تماهت باريس وسايرت واشنطن في كل خطواتها واجراءاتها وسياساتها التدميرية ضد العراق. ولم تكن بعيدة عن ظهور تنظيم القاعدة ثم تنظيم داعش في العراق والمنطقة.
ولم يجانب الصواب من قال “ان تصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يدخل ضمن إطار حسابات الضغط على إيران بعد أن تغيرت الكثير من السياسات في المنطقة، لا سيما بعد التوافق الإيراني الخليجي في بعض الملفات، وكذلك بعد حديث وزير الخارجية الإيراني على هامش مؤتمر قمة بغداد 2 في الأردن، بأن إيران ترحب بأي تفاهم مع بلدان الخليج”.
وأدوار ومواقف وسياسات باريس السلبية السيئة لم تقتصر على ايران والعراق، وانما شملت لبنان وسوريا ودولًا أخرى، ولم تقتصر على المرحلة أو المراحل الراهنة، بل إن لها جذورًا تاريخية عميقة، ولعل الجزائر، وربما دول افريقية وغير افريقية، خير شاهد ودليل على ذلك.
وحينما زار ماكرون العام الماضي العراق للمشاركة في قمة بغداد الأولى، وتجول في الموصل وبغداد واربيل ومدن عراقية اخرى، برزت ردود فعل واسعة انطوت على انتقادات حادة ولاذعة لفرنسا وعموم الغرب. وكان من بين تلك الانتقادات وردت على لسان زعيم طائفة الكلدان الكاثوليك في العراق والعالم البطريرك “لويس روفائيل ساكو”، الذي قال في حينها “انّ الخطأ في انتظار الخلاص وحل المشاكل من الغرب، كان له آثار مدمرة حتى عندما يتعلق الأمر على وجه التحديد بالجماعات المسيحية في الشرق الأوسط.. إن الغرب الذي يدافع عن المسيحيين في مناطق أخرى من العالم، هو أسطورة تسببت في الكثير من الضرر، وبدت بعض لحظات زيارة ماكرون للموصل بمثابة إحياء آخر لتلك الأسطورة”!.
وأضاف قائلا “ان كليشيهات الزيارات التي عفّى عليها الزمن الآن من قبل القادة الغربيين الذين يذهبون إلى مناطق الأزمات، مضللة، فهم يقدمون أنفسهم على أنهم يحلون النزاعات والأوضاع المتدهورة طويلة الأمد.. لقد رأينا العديد من البعثات السياسية والعسكرية الغربية في الشرق الأوسط، ورأينا الكثير من الوعود بالمساعدة، وفي النهاية يظل كل شيء على مستوى الكلمات الجوفاء، إن لم يكن أسوأ. دعونا نفكر فيما حدث في أفغانستان، لنفكر في الوعود العديدة التي قُطعت للبنان مؤخرا، وهو لا يزال يعاني من أزمة خطيرة للغاية. والحقيقة أن الدول الغربية لا تستطيع فعل أي شيء، خاصة الآن بعد أن انشغلت جميعا في حل مشاكلها الاقتصادية وتركيز مواردها في مكافحة الوباء”.
ولو ان مثل هذا الكلام جاء على لسان شخصية ايرانية، أو شخصية عراقية قريبة من ايران، لكان رد باريس وغيرها، انه يأتي في اطار تزييف الحقائق وتضليل الرأي العام، ولكن ماذا يمكن أن يقال حينما يرد على لسان شخصية دينية مسيحية بهذا المستوى؟
ولعل الحقيقة الدامغة التي لا جدال فيها ولا نقاش، هي أن الأجندات والمشاريع والمصالح الخاصة، والتحديات الاقتصادية والأمنية الراهنة، وحقائق معادلات القوة القائمة، لا يمكن أن تتيح أو تدفع الأطراف الدولية الكبرى، ومن بينها فرنسا، الى الاضطلاع بأدوار ايجابية لصالح الشعوب، ومنها العراق ولبنان واليمن وايران وغيرها، ولو كانت راغبة وصادقة فعلًا بذلك، لما جعلتها تتعرض لكل تلك المشاكل والازمات والكوارث والويلات، التي لا تحلها ولا تحلحلها ولا تعالجها زيارات وجولات استعراضية وتصريحات جوفاء، تتلاعب بالعواطف اكثر مما تلامس العقول.
ولا شك أن المشكلة الأكبر تكمن في من يصدق ما قاله ويقوله ماكرون والساسة الغربيون، وينساق وراء اكاذيبهم وادعاءاتهم دون القليل من التأمل والتفكير والتمحيص.