بقلم // محمد عبد الجبار الشبوط
في فجر يوم ١٧ تموز من عام ١٩٦٨ لمعت في الجو قذيفة ضوئية استرعت انتباه البغداديين الذين كانوا مازالوا نائمين في سطوح منازلهم كما هي عادتهم في الصيف في تلك الايام. كنت انذاك طالبا جامعيا في المرحلة الاولى في قسم اللغة الانجليزية في كلية التربية/ جامعة بغداد. قال لي عمي بعد ان رأى القذيفة: انه انقلاب عسكري قام به البعثيون ضد حكومة عبد الرحمن عارف. هذا هو الانقلاب الرابع الذي اشهده في حياتي. الاول قاده عبد الكريم قاسم (١٩١٤-١٩٦٣) في ١٤ تموز من عام ١٩٥٨ واطاح بالملكية واعلن النظام الجمهوري، والثاني في ٨ شباط من عام ١٩٦٣ الذي نفذه البعثيون و قتلوا فيه عبد الكريم قاسم في مبنى الاذاعة (شبكة الاعلام العراقي حاليا)، والثالث قاده عبد السلام عارف (١٩٢١-١٩٦٦) في ١٨ تشرين الثاني عام ١٩٦٣ واطاح بحكم حزب البعث الاول. والاخير موضوع حديثنا الحالي. هذا طبعا ماعدا المحاولات الانقلابية الكثيرة الفاشلة.
سبق الانقلاب تظاهرات طلابية وغيرها ضد حكم عبد الرحمن عارف (١٩١٦- ٢٠٠٧) شقيق عبد السلام عارف استمرت اسابيع ومهدت للانقلاب وعطلت الدراسة في الكليات.
البعثيون حزب قومي عروبي علماني يتبع افكار ميشيل عفلق (١٩١٠-١٩٨٩) المفكر العروبي السوري المسيحي الذي جمعت مقالاته وكتاباته في كتاب بعدة اجزاء بعنوان (في سبيل البعث) وكان ينادي بالوحدة والحرية والاشتراكية للعرب. وبعد عام ١٩٦٨ استولى صدام على الحزب، وسار في طريق ابعده عن الشعارات الاولى للبعث، واسس لفكرة الحزب الواحد والقائد الضرورة وعبادة الشخصية لينتهي به الامر مختفيا في حفرة صغيرة حيث القت القوات الاميركية القبض عليه اسيرا ذليلا.
اثار استيلاء البعثيين على السلطة للمرة الثانية قلقا في اوساط بعض الشباب خاصة في الحزب الشيوعي العريق وحزب الدعوة الاسلامية الحديث نسبيا. وتخوف هؤلاء الشباب من النتائج السلبية التي قد يأتي بها هذا الامر. واذكر اننا ناقشنا الامر مع احد اساتذتنا في الجامعة، اظنه لازال حيا وادعو له بالعمر الطويل والصحة التامة، فقال لنا وهو يبتسم: “هذه المرة الجماعة جاءوا ليبقوا”.
حمل الشباب مخاوفهم الى احزابهم، لكن الردود كانت مخيبة للامال. الحزب الشيوعي رأى ان البعثيين حزب برجوازي صغير (يعني ليس رأسماليا او اقطاعيا)، وانه من الممكن ان يخطو خطوات “تقدمية” تقربه من الماركسية-اللينينية، وانه من الاصح التحالف معه. ولم يخطر على القيادة الشيوعية احتمال ان يكون البعث خطرا على العراق في المستقبل. وهذا ما حصل حتى وجه البعثيون ضربتهم القاضية على الحزب الشيوعي في عام ١٩٧٩.
اما حزب الدعوة فقد اعتبر البعثيين حزبا شبه عقائدي، وهو اداة بيد الاستعمار. والحزب شبه العقائدي لا يملك من قوة التأثير على المجتمع ما يمكن ان يغير هويته ومساره، فضلا عن كونه عميلا للاستعمار الامر الذي يجعله فاقدا للقدرة على التأثير.
لكن التطورات اللاحقة بعد عام ١٩٦٨ اثبتت خطأ تحليلات الحزب الشيوعي وحزب الدعوة المنطلقة من قواعد ايديولوجية جامدة. فقد انطلق البعثيون في حملة مكثفة وشعواء الى تصفية معارضيهم الفعليين والمحتملين، وتبعيث المجتمع والدولة بما فيها القوات المسلحة والثقافة والمدارس. اضافة الى زج العراق بحروب عبثية ومغامرات داخلية وخارجية ونزعة عسكرية، الامر الذي ادى الى استنزاف خيرات العراق، وعزلته الدولية،
و ضياع فرصة بناء دولة حضارية حديثة بالاستفادة من واردات النفط الضخمة في السبعينات.
وعلى مدى ٣٥ سنة استطاع حزب البعث (شبه العقائدي) التأثير على العقل العراقي بافكاره المتخلفة والشوفينية الامر الذي لم يكن بالامكان ازالته بجرة قلم بعد سقوط حكمه في عام ٢٠٠٣.
واذا جاز للتاريخ ان يصدر حكما فهو قد يحمل الاحزاب التي فشلت في اكتشاف الخطر الذي مثله حزب البعث على الدولة والمجتمع مسؤولية عدم التصدي لحزب البعث في وقت مبكر واسقاطه قبل ان يستفحل خطره.