بقلم/شارل أبي نادر
عندما تتابع مقررات/أهداف قمة السبع (الدول الصناعية السبع الكبرى) المنعقدة في ألمانيا، وهي تسعى وتدعو إلى تشديد الخناق الاقتصادي على روسيا، وعندما تسمع أنَّ هذه الدول، بحسب البيت الأبيض، تدرس جدياً إنشاء “آلية لوضع حدّ أقصى لسعر النفط الروسي على المستوى العالمي”، يتراءى لك لأول وهلة أنّ هذه الدول تسيطر اليوم على سوق الطاقة العالمي، في الأسعار أو الكميات الموزعة، وتحديداً الغاز والنفط، وأنها تمسك سوق الغذاء العالمي، وتحديداً أسعار القمح والذرة والحديد والأسمدة الزراعية وكمياتها، وأنَّ روسيا واقتصادها وعملتها لقمة سائغة بين أيدي هذه الدول تتحكّم فيها كيفما تشاء.
هذا الأمر يظهر فقط في إعلام هذه القمة ومقرراتها، ولكن عملياً، وبعد التركيز قليلاً على ما يحدث عالمياً على صعيد الطاقة والغذاء، يتبين أن هذه الدول السبع الكبرى أصبحت على مقربة من الانهيار الاقتصادي، وأن التضخم ينتشر ويتفشى بشكل متسارع في هيكلية اقتصادياتها، وأنها لن تكون بعيدة عن الانفجار الاجتماعي، وأن روسيا، وهذا هو الأهم، هي التي تتحكم، وبنسبة كبيرة، في كل هذه الحاجات الاستراتيجية، وأنها، لو قررت خنق هذه الدول أكثر، لاستطاعت فيما لو أقدمت على وقف ضخ الغاز عن أغلب هذه الدول نهائياً أو فيما لو عرقلت أو خففت اهتمامها قليلاً بحركة انسياب القمح والذرة والأسمدة الزراعية تجاه القسم الأكبر من الدول الغربية، سواء تلك التي شاركت في قمة السبع أو التي ترتبط بها اقتصادياً.
من جهة أخرى، وعلى الرغم من أهمية الجانب الاقتصادي، لناحية الطاقة أو الغذاء، لا بدّ أيضاً من التطرق إلى الجانب العسكري والاستراتيجي الّذي لا يختلف أيضاً عن الجانب الاقتصادي لناحية الموقع الروسي المتقدم، إذ نجد أن روسيا تفرض قدرتها رويداً رويداً، وأصبحت تقريباً على الطريق لتحقيق الأهداف التي وضعتها لعمليتها الخاصة في أوكرانيا.
في المقابل، يعلو صراخ الغرب، وتحديداً الناتو، ويقفز من مؤتمر إلى آخر، ومن اجتماع إلى آخر، وهو يحاول فعل المستحيل لعرقلة الروس وتأخيرهم عن تحقيق هذه الأهداف، لكن من دون جدوى. يحصل ذلك على الرغم من دعم أوكرانيا بسلسلة لا تنقطع من الأسلحة الفتاكة والمتطورة، وعلى الرغم من اعتماد الغرب مناورة غير مسبوقة تاريخياً من العقوبات والضغوط الاقتصادية التي حاول تركيع روسيا عبرها، ولكن أيضاً من دون جدوى.
إذاً، من الواضح أنَّ روسيا في الجانب الاقتصادي، لناحية الطاقة أو لناحية الغذاء، تفرض نفسها وموقعها، ولا يبدو أنَّ هناك وسيلة أو إمكانية لدى الغرب للتخلّص من هذا التفوق الروسي. وفي الجانب العسكري، تفرض روسيا نفسها أيضاً، أولاً لناحية العملية الخاصة في أوكرانيا وتقدم وحداتها الثابت والمؤثر ميدانياً بشكل واضح، وثانياً لناحية موقفها الرادع على الساحة الدولية، في أوروبا وخارجها، وما بين الشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط حتى شمال أوروبا، وامتداداً إلى بحري البلطيق وبارنتس، وحتى القطب الشمالي، حيث تثبت موقعها وقدراتها وإمكانياتها، وهي تعرض وتنشر يومياً ترسانات ضخمة من الأسلحة الحديثة، ومن الغواصات النووية والصواريخ والقاذفات الاستراتيجية، من الأحدث والأسرع والأخطر والأكثر إمكانية على الفتك والتدمير عند أي مواجهة.
وفي الموقف والقرار، نجد ثباتاً روسياً لا يتزحزح يعبر عنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشكل واضح عندما يقول: “نحن ماضون حتى النهاية في العملية حتى تحقيق أهدافها، سواء عبر التفاوض أو عبر العملية العسكرية”. في مقابل ذلك، نجد التردد والتشتت الغربي في مواجهة العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وتتناقض تصريحات مسؤولي الناتو بين العازم على الذهاب حتى النهاية في المواجهة، مهما كلّف الأمر، مثل الرئيس الأميركي جو بايدن أو رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، والحائر بين المواجهة والتسوية حفظاً لاقتصاد بلاده، مثل المستشار الألماني أولاف شولتس أو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
هذه العقدة المتعددة الاتجاهات التي يعانيها الغرب اليوم بمواجهة روسيا وضع لها بوتين حلاً بسيطاً وسهلاً، يرتكز على أن تقوم أوكرانيا – وبموافقة غربية طبعاً – بتنفيذ بعض الشروط المحددة: التزام عدم الدخول إلى الناتو، والاعتراف باستقلال مناطق القرم والدونباس، وهي مناطق وفق نظرة موسكو وموقفها روسية الأصل والسكان والثقافة واللغة والتاريخ، ومواطنوها أعربوا عن رغبتهم في الانفصال عن أوكرانيا عبر طرق ديمقراطية شرعتها نتائج الاستفتاء على الانفصال وطلبات الانضمام إلى روسيا.
بمواجهة هذا الحل الذي وضعه الرئيس بوتين، والذي من شأنه أن ينهي الحرب بليلة واحدة، كما صرح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في الآونة الأخيرة، ذهب الغرب نحو التصعيد أكثر، وها هو بايدن يقرر تمديد الوجود العسكري الأميركي في بولندا وتعزيزه، بعد أن قرر الناتو، وعلى لسان أمينه العام ستولتنبرغ، رفع عدد القوات العالية الجاهزية من 40 ألفاً إلى 300 ألف في أماكن انتشارها، وخصوصاً في أوروبا الشرقية، وفي المناطق المواجهة لروسيا أو القريبة منها، وها هي ليتوانيا، إحدى دول الناتو على البلطيق، وبدفع وتوجيه أميركي بريطاني مباشر، تعمد إلى محاصرة كالينينغراد الروسية بشكل مخالف لاتفاقيات سابقة، ومخالف لقوانين التجارة العالمية، في خطوة لن تمرّ على روسيا بسهولة بتاتاً، والناتو يعلم ذلك جيداً.
من هنا، وفي حين يحصل كلّ ذلك في ظل توتر واشتباك سياسي ودبلوماسي روسي – أطلسي غير مسبوق، تجاوز كلّ الخطوط الحمر التي كانت مضبوطة حتى أيام الحرب الباردة، وفيما يعتبر الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية، أن انتصار روسيا في هذه المواجهة سيكون له تداعيات غير محتملة على صعيد النفوذ والسيطرة في العالم، وعلى صعيد إنهاء الأحادية القطبية التي تعتبر واشنطن أنها الممثلة الوحيدة لها، وفي الوقت الَّذي يعتبر الأوروبيون أن فرض موسكو استراتيجيتها وتحقيق أهدافها في أوكرانيا سوف يكون قاضياً على أي توازن أوروبي بمواجهة روسيا، التي سوف تفرض أجندتها على القارة العجوز لمدى غير منظور… بعد كل ذلك، لم يعد أمام الغرب إلا الذهاب نحو مواجهة روسيا بالطرق غير المألوفة، فهل تكون الحرب النووية أو الحرب العالمية الثالثة بتوقيع وبقرار غربي، وبضربة أولى منه، عبر استهداف روسيا بأسلحة غير تقليدية؟