كتبه // د.أمل الأسدي
ينفرد العراقيون عن سائر الشعوب الإسلامية بعلاقتهم الخاصة مع أبي الفضل العباس(ع) فتعلقهم بشخصيته وثيق وعميق ودائم الحضور علی مدی الأيام والشهور، فحين يتغنون بالشجاعة والفروسية ينشدون للعباس(ع) وحين يتحدثون عن الإخوة، يستحضرون شخصية العباس(ع)، وحين يذكرون الوفاء والإيثار لايبتعدون عنه(ع) وفي الشدائد تجده أول مقصد لهم!! وفضلا عن ذلك كله،فإن للعباس (ع) تمظهرات اجتماعية وطقوسية خاصة بالعراقيين، ففي حل الخصومات والجلسات العشائرية، ومهما تكن القضية صعبة ومعقدة، بمجرد أن تُعقد وتُفتح راية العباس(ع) يقفل الموضوع وتُحل القضية!! وفي قضايا الشك والريبة والاتهامات،يُقصد ضريحه للقسم فيه والبت في الموضوع، وفي الشدائد والمهمات، يلملم المهموم همه وحزنه ويولي وجهه شطر قمر العشيرة قاصدا، فيفرج الله عنه وتُقضی حوائجه ببركة باب الحوائج العباس(ع)، ويعود مسرورا شاعرا بالرضا والأمان، ويعبر عن شكره وامتنانه فيوزع ” خبز العباس” الذي بات جزءا من الفلكلور والموروث الشعبي، ويتكون من خبز وخضروات وأحيانا قطعة من الجبن أو الكباب، وأغلب العراقيين يستلذون طعمه ويشعرون بالتفاؤل والأمل حين يُقدَّم إليهم.
وفي أيام المحرم الحرام يفردون يوما مميزا لأبي الفضل العباس، يطهون الطعام علی حبه وباسمه، ويخبزون خبزا خاصا(خبز عروگ) وهو خبز يتكون من الخضروات واللحم المتبل بالكركم، ويصنعون أباريق الشاي والكعك وهو ما يعرف بـ “چاي العباس”
وكذلك من عادات العراقيين ولاسيما في الجنوب أن يقوم شيخ العشيرة بخلع عقاله، ويدير اللثام على وجهه،وكذلك باقي أفراد العشيرة ويسيرون حفاة على الأرض، ثم يقومون بقلب الدلال على وجهها ثم يطين (الگمگم) و هو أكبر الدلال ويقلب فوق الدلال الصغيرة،وكذلك يقلبون (المكَلة والمحماس) وهي آلات خاصة بالقهوة، و لا تُوزع في المضيف القهوة مطلقاً في هذا اليوم(اليوم السابع من عاشوراء)
وفي ذلك دلالة علی وقوع حدث جسيم، وأمر محزن أو مكروه ،كفقد كبير القوم وسيدهم،ويجتمع أفراد العشيرة ويطلقون الأهازيج للتعزية مثل:
(الهور أصبح متجتف من طب العباس)
( ادخيل الشـال الـبيرغ يوم العاشر وي حسين)
أما في أفراح العراقيين ومناسباتهم، فتجدهم في الخطبة ـ مثلا- ما إن يتم الاتفاق بين أهل العروسين حتی تتم قراءة ” فاتحة العباس” أي قراءة سورة الفاتحة المباركة وذكر العباس(ع) كرمز للوفاء والثبات يجلب الخير والبركة، وقد تشاهد المرأة العراقية وهي تلاعب صغيرها أو حفيدها وتغني له:
فدوه رحت لابو نجوم ماخله گلبي محروم
فدوه رحت للباري ماخله حضني خالي
فدوه رحت للعباس ماخله عيني عل الناس
فدوه رحت للزهره انطتني احلى زهره
وفدوة اروحن للحسن انطاني هالوجه الحسن
وفدوه رحت للحسين انطاني هالابن الزين
أما في مواقف الجور والحيف، فحين يُهضَم فردٌ منهم، يرفع علی سطح بيته راية العباس(راية خضراء) ويخاطبه سائلا إياه رد حقه ورفع الظلم عنه، وتبقی الراية مرفوعة الی أن يتحقق مراده، وتجد العراقيين ينادون العباس(ع) بـ (خي زينب) وحين يسألونه أمرا يقسمون عليه بزينب( امشين عليك زينب) وذلك لعلاقته بالسيدة زينب(ع) وكفالته لها في يوم الطف، وأحيانا يخاطبونه بـ(ابن البدوية) أي أمه،فاطمة الكلابية(أم البنين) التي يتعلقون بها بشكل ملفت،فهي حاضرة معهم، في يومياتهم، يذكرونها في كل موقف وفي كل شدة، واسمها بمثابة وِرد يومي لهم، فدائما تسمعهم يقولون” الفاتحة لأم البنين” لتيسير الأمور وجلب البركات.
أما في سوح القتال فللعباس(ع) المكانة العظيمة، كيف لا وهو فارس من فرسان العرب، كان إذا ركب الفرس تخط رجلاه الأرض،فهو ابن أمير المؤمنين(ع) فاتح خيبر ومجندل أبطالها،وبما أن العراق قد مرّ بمحنٍ كثيرة وشدائد مهولة، آخرها الهجوم البربري الدا عـ..شي واحتلاله لمدن عراقية في الشمال و الغرب، كان لابد من استحضار رموز البطولة الشجاعة والصبر والثبات من قبل المقاتلين الأبطال، ولاسيما أبناء الفتوی المباركة من رجالات الحشد وصناديده، فحين يحاصرهم العدو يلوذون بالعباس، يستذكرون شجاعته وفروسيته، ومن ذلك قصص كثيرة يرويها الجنود ويخاطبونه، وفي ليلة من الليالي حاصرتهم قوی الظلام الغادرة، فما كان من الأبطال إلا أن يستبسلوا وهم ينشدون لأبي الفضل:
عباس عينك عل حشد بجاه العقيلة ارعاهم
عندهم عوايل تنتظر جيتهم وملگاهم
راح بسلام ترجعه لخاطر اخوه الودعه
بجاه البگن عل المشرعه وبنحر اخوك ومصرعه
كلمن مشة لاهله يرد بي تكتحل عيناهم
بجاه الي ما تخلف وعـد امك التحضر بالشدد
للينتخي عون وسند انشدها عل تفگد ولد
گلها يشبهون الورد امهم بقت تتناهم
عباس عينك عل الحشد بجاه العقيلة ارعاهم
هكذا يعشق العراقيون أبا الفضل العباس ويقدسون شخصيته، ويحترمونه ويهابونه، وحين تزوره تشاهد الرجال يضعون العقال عن رؤوسهم، يخلعونه أمام باب العباس(ع) تأدبا واحتراما!!
ولايغيب اسم العباس عن ألسنة العراقيين وبيوتهم، فلاتجد بيتا من بيوتهم إلا وفيه اسم عباس أو حسين أو حسن أو محمد أو علي، ومن شدة حبهم لأهل البيت ينتظرون شهر شعبان بشغف للاحتفاء بولادات الأئمة، وينتظرون الزيارة الأربعينية بفارغ الصبر كي ينصبوا المواكب ويطعمون الضيوف القاصدين كربلاء من كل مكان، علی محبة محمد وآل محمد.