بقلم / رامي الشاعر
صرح رئيس هيئة الأركان المشتركة لوزارة الدفاع الأمريكية “البنتاغون” مارك ميلي، بأن القوات الأوكرانية لن تكون قادرة على استعادة الأراضي من روسيا هذا العام، مؤكداً على أن تلك مهمة عسكرية “جادة وصعبة للغاية”.
وكان ميلي قد وصف رغبة الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي في “استعادة شبه جزيرة القرم” بأنها “متطرفة”، مشدداً على أن واشنطن ليست في حالة حرب مع روسيا، وإنما هي فقط “تساعد أوكرانيا في القتال من أجل وحدة أراضيها”.
هكذا الأمر إذن، يعترف الجنرال الأمريكي رفيع المستوى بأن الولايات المتحدة الأمريكية، وبالطبع “الناتو”، ليسا في حرب مع روسيا، وإنما هما يساعدان أوكرانيا فقط على ما يسمونه “وحدة أراضيها”، وقد فعلا ويفعلان كل ما بوسعهما، إلا أن أوكرانيا لها رغبات “متطرفة” وربما أراد أن يقول “غير منطقية” أو حتى “مجنونة”، وتلك الرغبات لن يكون من الممكن تحقيقها لأنها “جادة وصعبة للغاية”. بكلمات أخرى، يقول لسان الحال “لقد فعلنا ما بوسعنا، لكن أوكرانيا لم تتمكن من تحقيق الهدف”. بمعنى آخر، لن تتمكن الولايات المتحدة الأمريكية، ومعها “الناتو” من تحقيق هدفهم بـ “إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا”.
يأتي ذلك بعد صدور البيان الروسي الصيني المشترك بأن العلاقات الروسية الصينية قائمة على الشراكة الشاملة، وتدخل عصراً جديداً، وكذلك بعد ما صرح به وزير الدفاع الصيني الجنرال لي شانغ فو، المعين جديداً، والخاضع للعقوبات الأمريكية، بأن التعاون العسكري بين الصين وروسيا سيكون على كافة الأصعدة.
يأتي ذلك أيضاً بعد ساعات قليلة من إعلان الكرملين عن توقيع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مرسوماً يرسم ملامح الاستراتيجية الجديدة للسياسة الخارجية الروسية، تم تحديد الولايات المتحدة الأمريكية فيه بـ “المحرك الرئيسي والمصدر الأساسي للسياسة المعادية لروسيا في العالم”، و”أكبر خطر يواجه العالم وتطور البشرية”، والذي يؤكد كذلك أن روسيا سوف تهتم على نحو خاص بـ “تعزيز العلاقات والتنسيق بشكل شامل مع مراكز القوة العالمية الصديقة: الصين والهند”.
لقد كانت روسيا دائماً، على مدى العقود الثلاثة الأخيرة، على علم بمحاولات الولايات المتحدة الأمريكية الخبيثة، وحربها الهجينة ضد روسيا. كانت روسيا على علم بتخطيط الولايات المتحدة لافتعال ثورات ملونة في محيط روسيا، نجح بعضها (في أوكرانيا ومولدوفا وغيرها)، ولم ينجح البعض الآخر (في بيلاروس وكازاخستان)، ولعل الكتاب الذي صدر أخيراً عن مجموعة “كومسومولسكايا برافدا” الإعلامية لفلاديمير سونغوركين، ويحمل عنوان “صنع في CIA. التاريخ السري للثورات الملونة والانقلابات”، يلقي الضوء على الأساليب التي استخدمتها الولايات المتحدة في الفترة من النصف الثاني من القرن العشرين وحتى يومنا هذا، لقلب نظام الحكم، وإزاحة الأنظمة التي لا تروق لمصالح المؤسسات الاقتصادية الكبرى في الولايات المتحدة، ولا تتماشى مع مصالح الولايات المتحدة في أماكن متعددة حول العالم.
أقول إن روسيا كانت على علم، وكانت في الوقت نفسه تحاول كدولة عظمى تفادي أي صدام مباشر مع الولايات المتحدة الأمريكية، آخذة بعين الاعتبار تداعيات وتأثير ذلك على الأمن والاستقرار العالميين. وكان الإنذار الأخير الذي أرسلته روسيا، ديسمبر 2021، بشأن الضمانات الأمنية، والذي يطالب الولايات المتحدة و”الناتو” بالتوقف عن التمدد شرقاً، بعد أن وصل إلى أوكرانيا، وبعد أن بدأ الحديث يدور حول “انضمام أوكرانيا إلى (الناتو)”، بعدما دار الحديث عن قواعد للناتو في القرم، عقب انقلاب عام 2014 في أوكرانيا، كان هذا الإنذار بمثابة الإنذار الأخير للجميع، للولايات المتحدة الأمريكية، التي تحرك دميتها أوكرانيا لمناوشة الجمهوريتين اللتان لا توافقان على انقلاب 2014، واللتان تريان مستقبلهما مع الثقافة الروسية، نظرا لأن أغلبية سكانها من الروس عرقياً وثقافياً.
وكان نقض اتفاقيات مينسك-2 هي القشة التي قصمت ظهر البعير، وكانت روسيا، في إطار تلك الاتفاقيات، تحاول خلال 8 سنوات أن تقنع كييف بالإبقاء على دونيتسك ولوغانسك ضمن حدودها، مع منح تلك الجمهوريات حكماً ذاتياً، والسماح لمواطني الجمهوريتين بإنشاء المدارس الروسية، والسماح للإعلام الروسي والثقافة الروسية بالوجود في ظل “وضع خاص” في الدستور الأوكراني، إلا أن ذلك لم يكن في حسابات الانقلابيين في كييف، الذين قاموا بعمليتين عسكريتين فاشلتين لضم تلك الجمهوريات، ومارسوا ضد أهالي الجمهوريتين كل أنواع العنف الممكنة، وقتلوا السكان، واستعدوا لعملية عسكرية جديدة، استبقتها روسيا بعمليتها العسكرية الخاصة.
مضت كييف في غيّها، ونفذت تعليمات واشنطن بحذافيرها، من أجل استنزاف روسيا، والصدام معها من أجل ضمان المصالح الأمريكية وتحت السيطرة الكاملة لـ “الناتو”، ونحن نرى اليوم كم الأسلحة والذخائر التي يقوم “الناتو” شخصياً بإمداد أوكرانيا بها، ناهيك عن المرتزقة والمتطوعين من التنظيمات اليمينة النازية الجديدة في أوروبا، والتي يتم تصفيتها يومياً بنيران القوات المسلحة الروسية.
لقد نفدت كل المحاولات الدبلوماسية والسياسة للحيلولة دون الصدام، ولم تجد روسيا بداً سوى القيام بعمليتها العسكرية الخاصة في أوكرانيا دفاعاً عن أمنها القومي، ليصبح ذلك الصدام علناً صداماً واضحاً بين روسيا و”الناتو” بأيدي الجيش الأوكراني والمرتزقة.
لهذا، فإن ما يصرح به الجنرال مارك ميلي ليس سوى اعتراف بالهزيمة، ونجاح روسيا في إحباط مخططات “الناتو” ونوايا الولايات المتحدة الأمريكية أولاً لزعزعة استقرار روسيا من الداخل، وثانياً لاستنزاف روسيا، وجرّها إلى المستنقع الأوكراني، وثالثاً وهو الأهم في تدمير الاقتصاد الروسي، الذي تبارى الخبراء الاقتصاديون خلال العام الماضي في التكهن بموعد انهيار هذا الاقتصاد، وخروج الشعب الروسي إلى الشوارع مطالبين برأس النظام. بما في ذلك من خلال جميع أدوات الحرب الإعلامية التي يمتلكها الغرب، حتى كانت بعض المواقع تنشر صوراً مضللةً وكاذبةً لطوابير أمام ماكينات سحب النقود، وشجارات في المتاجر على السلع التموينية، فيما كان خبراء اقتصاديون من أرقى الجامعات الأوروبية ينظّرون بشأن “انهيار الاقتصاد الروسي الأسبوع المقبل على أقصى تقدير”. لم يحدث أي من هذا، ولن يحدث.
ما حدث هو العكس، فيما اعتبرت مسؤولة في البنك الاحتياطي الفدرالي الأمريكي، ليزا كوك، في كلمة ألقتها بكليفلاند، بأن جميع البيانات “تشير إلى ارتفاع التضخم هذا العام، فضلا عن نمو أعلى من المتوقع”. ما حدث هو أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن توصي بقواعد “أكثر صرامة” لمنع انهيار البنوك، بعد أن حذر نائب رئيس مجلس الاحتياطي الفدرالي الأمريكي لشؤون الرقابة، مايكل بار، من أن عدم إصلاح الأخطاء في البنوك الأمريكية بعد اكتشاف أزمة السيولة هذا الشهر سيكون أمرا “غير مسؤول”، وذلك بعد انهيار بنك “سيليكون فالي”.
ما حدث هو ارتفاع التضخم في أوروبا، واندلاع المظاهرات، وبدء المواطنين الأوروبيين طرح أسئلة بشأن إمدادات الأسلحة لأوكرانيا، وبشأن ارتفاع أسعار الغاز، وارتفاع أسعار السلع الغذائية وغيرها. ما حدث ويحدث وسوف يحدث هو أن أوروبا تفيق الآن على الكابوس الذي أقحمها فيه شركاؤهم الأمريكيون، الذين أعلنوا الحرب عليهم بتدميرهم خط أنابيب “السيل الشمالي”، وبتوريطهم في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، بذريعة “استنزاف روسيا”، ودفاعاً عمّا يتوهّمونه “حرية” و”ديمقراطية” و”قيم العالم الحر”.
إن يداً إسرائيلية مباشرة أو غير مباشرة في هذه الهزيمة، فاللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الأمريكية يحاول بكل الإمكانات الوقوف ضد التحولات الدولية الجديدة، التي تجهز على هيمنة الولايات المتحدة على المشهد العالمي، ويحاول قدر استطاعته التأثير على تدهور وضع واشنطن وتل أبيب، من خلال تكثيف الاعتداءات على الأراضي السورية بالتوازي، وهي محاولات بائسة لاستعراض العضلات بعد هزيمتهم في أوكرانيا، ناهيك عن الاعتداءات اليومية على الشعب الفلسطيني.
إن إعلان رئيس هيئة الأركان المشتركة لوزارة الدفاع الأمريكية مارك ميلي هو تمهيد للإدارة الأمريكية للمبادرة بالبحث عن طريقة للتراجع، والحفاظ على ما تبقى من ماء الوجه للأمريكيين، خاصة أمام الأوروبيين الذين صرح أحدهم، وزير الدفاع الألماني، بوريس بيستوريوس، بأن توقف الرئيس الأمريكي المقبل عن الاهتمام بالمشكلات الأوروبية وحلف “الناتو”، يعني أن أوروبا ستواجه تحديات كبيرة وخطيرة. وتعني كلماته ببساطة أن أوروبا قد بدأت تستوعب الخديعة التي تعرضت لها من قبل الأمريكيين، وبدأت تستوعب فداحة الموقف الذي تقف فيه الآن وحيدة أمام روسيا، بعد أن اتضحت حقيقة استحالة هزيمة روسيا، واستحالة وقف عجلة تغيير النظام العالمي، وإنهاء وهم الحفاظ على أحادية القطبية، القضية التي حسمتها روسيا والصين والهند ومجموعة “البريكس”. ربما ما يقلق وزير الدفاع الألماني بيستوريوس (مواليد 1960) الآن ما سمعه من حكايات والديه بشأن ما حدث في 2 مايو 1945، حينما رفعت القوات السوفيتية العلم السوفيتي على مبنى الرايستاغ في برلين، ويخاف تكراره مجدداً!
إن دول إفريقيا وأمريكا اللاتينية تدرك تلك الحقائق، لكونها عاشت لعقود تحت نير الهيمنة الاستعمارية الغربية والأمريكية، وعانت الأمرين من انقلابات وثورات ملونة واغتيالات وألعاب سياسية بهلوانية أمريكية، لهذا نجد ترحيباً واسعاً من تلك الدول ببزوغ شمس النظام الجديد، ولو على استحياء حتى اللحظة، بسبب الضغوط الأمريكية، والتهديد بالعقوبات.
على ضوء التطورات الأخيرة، وهزيمة المخططات الأمريكية والإسرائيلية، يمكننا أن نشعر ببعض الطمأنينة بشأن إعلان الدولة الفلسطينية وفقاً لقرارات الشرعية الدولية، والذي أتوقع أن يكون قريباً جداً، فيما لن يكون هناك أي آفاق لاستمرار علاقات بعض الدول العربية مع إسرائيل دون قيام الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من حزيران يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.