بقلم // الشيخ محمد الربيعي
غالبًا ما يستخدم الاستشراف لتمثيل الأحداث المتوقعة أو المرسومة مسبقا أو المتخيل حدوثها في المستقبل.
قد يكشف الاستشراف أيضًا عن أجزاء مهمة من القصة لم تحدث بعد، لكنها ستكشف قريبًا بمزيد من التفصيل.
إنه مشابه للتقنية السردية: التنبؤ، التي لا تظهر فيها الأحداث المستقبلية بل يتم التلميح إليها ضمنيًا.
وبالعودة إلى المعاجم العربية نجد أن مصدر «الاستشراف» هو مفردة «استشرَف، يستشرِف، استشرافاً، فهو مُستشرِف»، فنقول صعد البرج للاستشراف على المدينة، أي الإطلال عليها من أعلى والنظر إليها، واستشرف للخطر، أي تعرّض له، واستشراف المستقبل، أي التطلّع إليه أو الحدس به، واستشراف السوق، أي استطلاع أحوالها وإمكاناتها في المستقبل .
محل الشاهد :
من الخطأ أن نفهم الاستشراف بأنّه جنس أدبي مخصوص، بل هو آلية تدخل في جميع الخطابات مهما كان توجهها أو نوعيتها، ويُعدّ الإمام الحسين عليه السلام من مرجعيات الخطاب الثقافي الإسلامي؛ لذا نرى من الضرورة بمكان الوقوف على أهمّ استشرافاته التي مثّلت ـ تاريخياً ـ منعطفاً لفهم المدرسة العلوية، ودليلاً إعجازياً يُحسب للثورة الحسينة التي دفعت الكثير للاقتداء بها، وألهمتهم الوعي الجاد المثمر من أجل فهم الواقع والوقوف عند أهم مفاصله، لكن الاستشراف الذي وقف عنده الإمام الحسين عليه السلام استشرافاً لم يكن تنبؤياً، بل كان استشرافاً يقينياً مُسنداً بما قاله الرسول صلى الله عليه وآله، إذن كان عن علم، غايته دفع الواقع، ومنع الثورة من التأزم داخل دائرة الموت، بالنظر إلى ماهية الاستشراف الذي هو نوع من الفعل الإيجابي.
وما شهدناه في الثورة كان غاية الحقيقة، فقد استشرف الإمام عليه السلام الحدث قبل وقوعه، وجعل الموت غاية من أجل الحياة، وهو تكتيك أرعب معارضيه وأربك سيرهم، فقتل الإمام عليه السلام في معركة غير متكافئة سيخلق منه بطلاً يُنصفه التاريخ، وتركه يعني انتصاراً حقيقياً له، لما كان له عليه السلام من قبول عند العامّة؛ لذا جاءت موضوعة البيعة ليزيد خياراً خاسراً، أو قل ورقة تصرّح بمدى الخسران الذي يشكو منه البيت الأُموي إزاء البيت العلوي.
كلّ الأحداث التي جرت للإمام قُبيل معركة الطفّ تُحيل النظر والاهتمام لأقواله التي عكست ظاهرة فريدة، وهي استشرافية الموقف، والسير مع هذا الاستشراف بشكل استثمر معه الإمام الموقف لصالح المعركة، وأوّل مظاهر هذا الاستشراف أقوال الرسول صلى الله عليه وآله التي كانت حاضرة مع الحسين عليه السلام، ومنها تلك الأقوال التي كانت تؤكّد على مقتله، والكيفية التي تجري بها المعركة، ونحن هنا إزاء موقف لا تستطيع حكمتنا البشرية استيعابها بتفاصيلها؛ لأنّها تصيبنا بالدهشة من عظمة شخص الإمام عليه السلام وقدرة صبره، فقد قلب مفهوم الموت، ليكوّن مفهوماً جديداً للحياة، وهذا بالفعل يحتاج إلى طاقة هائلة، وحكمة تفرّد بها الإمام.
ومن أهمّ استشرافاته لموته قول الإمام السجاد عليه السلام: «خرجنا مع الحسين عليه السلام فما نزل منزلاً ولا ارتحل منه إلّا ذكر يحيى بن زكريا وقتله، وقال يوماً: ومن هوان الدنيا على الله أنّ رأس يحيى بن زكريا عليه السلام أُهدي إلى بغيٍّ من بغايا بني إسرائيل».
النص على خطورته يستشرف موت الإمام عليه السلام، مع حدث مفصلي في واقعة الطفّ، هو حمل الرأس الشريف على الرماح، والطواف به بين مدن العراق والشام، وهنا لا يمكن القول: إنّ هذا الاستشراف تنبؤي، بل هو واقعي، كان هدف الإمام من ذكره تهيئة أهل بيته وأصحابه وإخبارهم بقتله، وللمعركة نفسها، وتكاد تكون المقاربة التي طرحها الإمام بينه وبين يحيى بن زكريا عليهما السلام مقاربة بين الحق والباطل، الذي خضع لها التأريخ وقرّب أطرافها، لكن الحسين عليه السلام حقق الشهادة التي كانت تُخيف أعداءه وتُرهبهم؛ إذ «إنّ فلسفة الشهادة في سبيل المبدأ والعقيدة، كانت في الوقت ذاته توكيداً للكرامة الإنسانية، التي أدّت في الأخير إلى مجازفة أخلاقية تمثّلت بالرفض والتحدي، واتخاذ موقف ثوري.. ومن هنا، فإذا خسر الحسين الرهان بقتله، فإنّه كسب في الحقيقة والواقع الرهان عبر رغبته في التضحية والإصرار على تنفيذها، حيث حمل قدره بيده ومضى، حتى الشهادة».
فقد تحوّلت الشهادة مع الإمام الحسين عليه السلام إلى فلسفة للحياة؛ لأنّها كانت نزاع بين الحق والباطل، انتصر الحق محرراً معه الإنسان على مرّ العصور.
ومن استشرافه ـ أيضاً ـ قوله لأبنه علي الأكبر عليه السلام: «يا بُني، إنّي خفقتُ برأسي خفقةً، فعنّ لي فارسٌ على فرسه، وهو يقول: القوم يسيرون، والمنايا تسير إليهم، فعلمت أنّها أنفسنا نُعيت إلينا».
سايكولوجياً عندما تكون النفس قريبة من الموت لا تكون قوية، لكن هذه المعادلة قلبتها الثورة الحسينية، وهذا واضح جداً من خلال الاستشراف الذي رافق الثورة من بداياتها مع الإمام الحسن عليه السلام حتى إعلانها مع الإمام الحسين عليه السلام، فلا يمكن لأحد من البشر انتظار الموت والتهيئة له على نحو ما وجدنا الإمام الحسين عليه السلام عليه؛ لهذا حمل الاستشراف فلسفة خاصّة للموت، رافقت الأجيال، وقدّمت لهم رموزاً للتعبير عن الذات وحمايتها من التراخي والضياع، إذ قال عليه السلام: «لا أرى الموت إلّا سعادة، ولا الحياة مع الظالمين إلّا برماً».
وربما ساعد هذا الاستشراف على خلق معركة جديدة ليزيد وأعوانه، لم تكن بالحسبان للإجرام الذي كان يُسيّس كلّ شيء بالدولة، هو ظهور شخصيات انقلابية خلال المعركة، أو قُبيلها مثل شخصية الحر الرياحي الذي رجع لإنسانيته، رافضاً ما كان عليه معسكر يزيد من جرم، متحرراً من هذا الظلم، فثمّة مقاربات عديدة حدثت بفعل استشرافي، لم تختفِ آثاره في معركة الطفّ، كقوله السابق، مقرناً الموت بالسعادة، والحياة بالذل والهوان؛ لاشتمالها على الباطل.
ط الموت على وِلد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا لاقيه، كأنّي بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات، بين النواويس وكربلاء، فيملأنّ منّي أكراشاً جوفاً، وأجربةً سُغباً، ولا محيص عن يوم خُطّ بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفّينا أجور الصابرين».
يوسف ويعقوب في النص ثنائية واقعية تحمل معنى إيجابياً للانتظار، والمقاربة التي اشتمل عليها النص بين يوسف ويعقوب، والإمام الحسين وأهله (جدّه وأبيه)، تقع في عدّة محاور، منها: الظلم الذي لحق بيوسف عليه السلام بإبعاده عن أبيه قسراً وحقداً وطمعاً، كذلك الإيمان الذي كان يتحلّى به يوسف والإمام الحسين عليهما السلام، وكان سلاحاً أرعب معاديه، وأقضّ مضاجعهم؛ إذ تمثّل في الصبر والخضوع لأمر الله عز وجل، والمحور الأهمّ هو انتصار الحق والمبدأ في النهاية لكلّ من الإمام الحسين والنبي يوسف عليهما السلام، وإن كان بموت الحسين؛ ذلك لأنّ موته حقق شهادة نوعية قفزت فوق الممكن، فحققت رمزاً لصدق المبدأ والعقيدة، ولولا مصداقيتها وشرعيتها لما دخلت قلوب المسلمين وغير المسلمين، وتجذّرت في مخيالهم
اللهم احفظ الاسلام واهله
اللهم احفظ العراق و شعبة