بقلم // د. علي المؤمن
مدخل
الشيخ محمد علي التسخيري، فقيه ومفكر وأديب ومبلغ وحركي ورجل دولة، من مواليد النجف الأشرف (العراق) في العام 1944. يعد من رواد الحركة الإسلامية العراقية، وأحد قادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وكان من أبرز أساتذته المرجع الشهيد السيد محمد باقر الصدر. وبالرغم من تعدد الجوانب المهمة في سيرته، إلّا أننا سنركز على أحدها في هذه الدراسة، وهو جانب التبليغ الإسلامي النخبوي العالمي، أو ما يمكن أن نصفه بالدبلوماسية الفكرية والثقافية العالمية. ومن خلال دراسة حياته، نجد أن الإنجاز الأهم الذي حققه العلامة التسخيري في سيرته العملية بعد العام 1981 وحتى لحظة وفاته؛ هو إنجاز تأسيس حراك التبليغ الإسلامي النخبوي العالمي والدبلوماسية الفكرية والثقافية الإسلامية.
وسترتكز هذه الدراسة على مشاهداتي الحسية الشخصية، أي ما دونته خلال مسيرة علاقتي بالشيخ التسخيري، والتي تعود الى أواسط ثمانينات القرن الماضي، وتحولت بمرور الزمن الى ملازمة شخصية، وخلال هذه الرحلة الطويلة، عملت مستشاراً له لأكثر من عشر سنوات، ووفّر لي ذلك فرصة مرافقته الى عدد كبير من دول العالم، والتعرف عن قرب على حقيقة مشروعه وموقعه ودوره في الحراك الفكري والثقافي الإسلامي العالمي.
وسأقسم الدراسة الى محورين أساسين:
الأول: يتعلق بمفهوم التبليغ النخبوي الإسلامي العالمي، والفرق بينه وبين التبليغ الجماهيري، ومفهوم الدبلوماسية الفكرية والثقافية الإسلامية، والفرق بينها وبين الدبلوماسية السياسية والدبلوماسية الشعبية.
الثاني: الملاكات والقابليات الشخصية للشيخ التسخيري، والتي كانت قاعدة نجاحه في تحقيق إنجاز تأسيس حراك التبليغ النخبوي والدبلوماسية الثقافية الاسلامية.
•حراك التبليغ النخبوي العالمي
التبليغ النخبوي العالمي هو عمل إسلامي دعوي عالمي خاص، يتميز بمخاطبيه ومكان ممارسته؛ فهو يقتصر ــ غالباً ــ على مخاطبة النخبة والخراك وسط النخبة، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، من رجال دين ومفكرين ومثقفين وأكاديميين وقضاة ورجال دولة. ومكان ممارسته هو قاعات المؤتمرات والندوات والجامعات والصالونات الخاصة والمكاتب، وأحياناً المجلات البحثية والإذاعة والتلفزيون. أما التبليغ الإسلامي العام والجماهيري؛ فيخاطب عامة الناس على مختلف مستوياتهم، ومكانه ــ غالباً ــ المساجد والحسينيات والمواكب والبيوت والساحات العامة.
وقد مارس العلامة التسخيري النوعين من التبليغ في آن واحد، منذ بداية حياته العلمية والعملية؛ فمن خلال عمله وكيلاً لمرجعيات النجف وقم؛ مارس التبليغ الجماهيري في بعض المدن العراقية، ثم في الكويت وإيران، والى جانبه كان يمارس التبليغ النخبوي أيضاً انطلاقاً من التزاماته الحركية وحضوره في المنتديات الخاصة والمؤسسات البحثية بوصفه باحثاً وكاتباً. ولكن بعد تسلمه المسؤوليات الرسمية في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، بدءاً من العام 1981، ولاسيما مسؤولية معاون رئيس منظمة الإعلام الإسلامي للعلاقات الدولية بعد العام 1982، ثم الأمين العام للمجمع العالمي لأهل البيت، ثم مستشار السيد الخامنئي للشؤون الدولية، ثم رئيس منظمة الثقافة والعلاقات الإسلامية، ثم الأمين العام للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب، هذه المسؤوليات الكبيرة؛ جعلته يتخصص تلقائياً في التبليغ النخبوي العالمي والدبلوماسية الثقافية الإسلامية، ويعمل على إرساء أسسهما ومناهجهما وخطابهما وسلوكياتهما.
وقد جمع العلامة التسخيري في هذا الحقل بين مسار العمل المؤسساتي ومسار الجهد الشخصي؛ لأن العمل المؤسساتي الوظيفي لايفي لوحده بأغراض الأهداف التبليغية النخبوية؛ بل بحاجة لأن يقرن بجهود شخصية فردية مضنية. وقد سار أغلب العاملين في المؤسسات التي قادها وأدارها الشيخ التسخيري على منهجه وخطاه، بصرف النظر عن قدرة كل فرد ومسوؤل ومبلغ نخبوي ودبلوماسي ثقافي على تمثل هذا المنهج وبلوغ غاياته؛ لأن هذا التمثل بحاجة الى قدرات وقابليات شخصية، شبيهة الى حد ما بما كان يتمتع به الشيخ التسخيري، وهي نادراً ما يمكن أن تجتمع في شخص واحد، كما سنأتي في المحور الثاني من البحث. ولذلك أنا أسمي ما أسسه الشيخ التسخيري وقاده؛ حراكاً إسلامياً عالمياً نهضوياً، وليس مجرد عمل مؤسساتي ووظيفي أو مجهود شخصي.
ولاشك؛ إن الذي ألزم الشيخ التسخيري بتأسيس هذا الحراك وقيادته؛ هو طبيعة هوية الدولة التي انبثق هذا الحراك في إطارها، أي الجمهورية الإسلامية الإيرانية؛ فهي بطبيعتها دولة عقائدية، وتحمل في كينونتها وغاياتها أهدافاً تبليغية ودعوية وثقافية نهضوية عالمية، وهي الغايات التي يُطلق عليها ــ مجازاً ـــ تصدير الثورة، وهي في حقيقتها ممارسة العمل التبليغي الإسلامي النهضوي، وليس تصدير الثورة سياسياً وعسكرياً.
ولعل المؤتمر العالمي للفكر الإسلامي، الذي كان يعقد سنوياً في طهران، منذ العام 1984، وتحضره نخبة الفكر الإسلامي من كل دول العالم، هو أحد أهم نتاجات حراك الشيخ التسخيري النخبوي في تلك الفترة. ولم يكن هدف إقامة المؤتمر التداول في الشأن الفكري وحسب؛ بل إنه تحول الى نموذج فريد لتلاقي النخبة الفكرية والعلمية من كل المذاهب الإسلامية والاتجاهات الفكرية.
وفي الفترة نفسها، عمل الشيخ التسخيري على خط فكري وثقافي آخر، وهو خط البحث والترجمة والنشر، فأصدر من خلال منظمة الإعلام الإسلامي مئات الكتب بعشرات اللغات، وكانت توزع في أكثر من (120) دولة، كما أصدر المجلات الثقافية والفكرية بأكثر من لغة، وكان أهمها مجلة التوحيد التي ترأس تحريرها شخصياً، ثم كلفني برئاسة تحريرها بعد العام 1991.
وفي كل المؤسسات التي كان ينتقل اليها، ينقل معه تجاربه ومجهوداته في التبليغ النخبوي، بل يراكمها ويبدع أكثر، ولم يكن يقطع صلته بالمؤسسة السابقة؛ بل يبقى يتحمل مسؤوليتها من موقع الإرشاد والتوجيه عن قرب، وكأنه حاضراً فيها، وهو ما جعل حضور الشيخ التسخيري في أغلب المؤسسات الفكرية والثقافية العالمية في الجمهورية الإسلامية؛ شاخصاً ولامعاً، بدءاً بمنظمة الإعلام الإسلامي والمجمع العالمي لأهل البيت والمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب ومنظمة الثقافة والعلاقات، وليس انتهاءً بجامعة الأديان وجامعة المصطفى؛ فهو ـــ في آن واحد ـــ أما رئيساً أو أميناً عاماً أو عضواً في هيئة الأمناء أو مستشاراً أو مشرفاً. ولذلك؛ كان للشيخ التسخيري الدور الأساس في توحيد رؤى هذه المؤسسات وتنسيق أدوارها في العمل الفكري والتبليغي والثقافي الموجه الى الخارج. وهذا الحضور البارز والمسؤول والحريص في كل هذه المؤسسات في آن واحد، كان يجعل أغلب أصدقائه من المفكرين والعلماء؛ لايعرفون في أية مؤسسة يعمل الشيخ التسخيري بالضبط؛ بل كان بعضهم يتصور أنه مسؤول عن كل هذه المؤسسات، ويقولون إنها ((امبراطورية التسخيري))، وهذه التوصيف سمعته من كثير من النخب العربية والإسلامية، والحال أنها لم تكن إمبراطورية ولا حتى إمارة؛ بل لأن الحركة الدائبة والحضور الكبير والجهد الشخصي الهائل للشيخ التسخيري؛ كانت تحمل الآخرين على هذا التصور.
وكان حضور الشيخ التسخيري ونشاطه في كثير من بلدان العالم؛ أشبه بسفير فكري وثقافي متجول؛ فتجده مشاركاً فاعلاً ومحاضراً ومحاوراً في أغلب المؤتمرات والملتقيات الإسلامية العالمية ومؤتمرات الأديان والحوار، كما تجده مجتمعاً مع الملوك والرؤساء والوزراء والمفتين وكبار العلماء المسلمين والمفكرين والادباء وكبار رجال الدين المسيحي. وفي كل هذه المؤتمرات والاجتماعات؛ كان التسخيري يستثمر الوقت لطرح الفكر أو الإجابة على إشكال أو التحاور لتقريب وجهات النظر بين نخبة الأمة. وكان كل هذا الجهد الصعب الكبير يصب في مسار حراك التبليغ النخبوي الإسلامي العالمي ودبلوماسية الفكر، وهو حراك لم يكن ليتأسس بهذه الصيغة المدروسة القوية المنظمة؛ لولا جهود العلامة التسخيري خلال أربعة عقود من البذل والعطاء والإخلاص والخبرة المتراكمة.
•الخصائص الشخصية للشيخ التسخيري
ليس هناك أدنى شك؛ بأن قابليات الشيخ التسخيري ومواهبه وخصائص شخصيته مجتمعةً؛ كانت السبب الأهم في تحقيق إنجاز تأسيس حراك التبليغ النخبوي الإسلامي العالمي والدبلوماسية الثقافية الإسلامية. ولعل كثيراً من هذه الخصائص حصرية، وكأن الله (تعالى) وهبها للشيخ التسخيري خصّيصاً؛ ليؤسس هذا الحراك ويقوده دون غيره، وسأسوق بعض الأمثلة البسيطة على كل خصيصة، وهي أمثلة عشتها وكنت شاهداً عليها. وأهم هذه الخصائص:
1- لغته وثقافته العربية: اللغة العربية كانت لغة الشيخ التسخيري الأم، فضلاً عن اللهجة العراقية المحكية، كما كان شاعراً باللغة العربية الفصحى واللهجة العراقية، وهو ما سمح له بالانفتاح الواسع والنوعي على النخب العربية والمسلمة في أغلب أرجاء العالم، ويجتذب من خلالها العقول والقلوب بأشكال ومضامين يصعب استيعابها في مقال أو دراسة أو كتاب، وتجعله محور اهتمام غير اعتيادي. ونحن هنا لا نقصد اللغة واللهجة وحسب؛ بل نقصد اللغة كمنظومة ثقافية، واللغة واللهجة كثقافتين عامة ومحلية؛ إذ كان الشيخ التسخيري متعمقاً بتفاصيل الثقافة العربية، سواء بمستوياتها الفكرية والأدبية والفنية أو مستوياتها الشعبية، ويكاد يكون جزءاً منها. والأهم من امتلاك هذه الخصيصة؛ قدرة الشيخ التسخيري على استثمارها وتوظيفها بصورة مدهشة، باتجاه خدمة أهداف الدبلوماسية الثقافية النخبوية العالمية. وبالطبع كان لولادته في النجف ونشأته النجفية، وارتباطه الحركي الإسلامي العراقي الطويل، وتربيته على يد أمه العلوية الفاضلة النجفية؛ الفضل الأول في امتلاكه هذه الخصيصة، فضلاً عن موهبته الذاتية في توظيفها.
ونسوق هنا مثالاً بسيطاً على تأثير هذه الخصيصة اللغوية الثقافية والقدرة على توظيفها. ففي العام 1999 كنا بمعية الشيخ التسخيري في طائرة خاصة متوجهين من الجزائر الى القاهرة، وكانت الطائرة تحمل وفوداً أدبية من أغلب الدول العربية، يصل عددها الى ما يقارب (150) أديباً وشاعراً وأكاديمياً. وكان الشيخ التسخيري خلال الرحلة يتحدث لبعضهم، وهو في مقعده، عن هدف الشعر في التأثير والتحريك, وكان عدد المتحلقين حول مقعده يزيدون تدريجياً بمرور الوقت، حتى تحول الحديث بصورة عفوية الى ما يشبه الندوة. وخلال حديثه طرح الشيخ التسخيري نموذجین من الشعر الفصيح وشعر العامية (الحسچة) العراقي؛ بهدف المقارنة في حجم العطاء وكرم العواطف والتأثير في النفس؛ فذكر بأن شاعر الفصحى يقول: ((لو كان لي قلبان عشت بواحد.. وتركت قلباً في هواك معذباً))؛ فيجيبه الشاعر العراقي: ((تتمنه لك گلبين غمك لهالراي.. بس گلب عندي عليل وهديته لهواي)). وفسّر الشيخ التسخيري للمتحلقين حوله معنى شعر العامية العراقي، وقال لهم: أنظروا الى التفاوت في حجم التأثير والعطاء والعاطفة بين الشاعرين؛ إذ يتمنى شاعر الفصحى أن يكون له قلبان لكي يتبرع بواحد منها لحبيببه؛ بينما شاعر العامية عنده قلب مريض واحد ووهبه لحبيبه، وبالتالي؛ فالعبرة ليس في جودة الشعر وفصاحته؛ بل في مستوى تأثيره في النفوس وقدرته على التحريك. وهنا ضج الأدباء والشعراء العرب المتحلقون حول الشيخ بالتصفيق والضحكات.
وبعد شهر تقريباً وصلتنا مقالات منشورة في الصحافة المصرية واللبنانية والسورية والكويتية بقلم بعض هؤلاء الأدباء والشعراء وهم يعبرون عن شديد اعجابهم بهذا الشيخ الفقيه الأديب الذي جذب عقولهم وقلوبهم. وحيال هذا الفعل الثقافي التلقائي؛ يمكن تلمّس حجم تأثير خصيصة اللغة واللهجة والثقافة العربية عند الشيخ التسخيري، على الدين والمذهب والدولة والنظام اللائي كان يتحرك الشيخ الراحل لتحقيق أهدافها.
ولعل هناك من لايعد الخصيصة اللغوية الثقافية مهمة في بلوغ الأهداف وإيصال الرسائل؛ لكني ـــ بحسب التجربة ـــ أعتقد أنه عنصر بالغ الأهمية؛ بل قاعدة الإنطلاق الأساس في إذابة الحواجز النفسية مع الآخر المنتمي الى البلدان العربية والإسلامية أو المختلف مذهبياً، وقد كنت شاهدت كيف كان الشيخ التسخيري يحقق هدف إذابة الحواجر النفسية والثقافية مع رؤوساء الدول والحكومات والوزراء والمفكرين والمفتين، من خلال الشعر العربي والنكتة والذكريات والحديث الوجداني والعاطفي.
2- الجمع بين التخصص والموسوعية: لقد جمع الشيخ التسخيري بين التخصص الفقهي والعلمي والفكري، وبين الثقافة الموسوعية؛ ففضلاً عن كونه فقيهاً ومفكراً، تتلمذ على كبار فقهاء عصره، كالسيد الخوئي والشهيد محمد باقر الصدر والإمام الخميني، وكل منهم يمثل مدرسة علمية شاخصة؛ فقد كان أيضاً موسوعياً في ثقافته، يبحث في التفسير والفلسفة والتاريخ والقانون والاقتصاد والعلوم الاجتماعية والأدب والفكر الغربي. ولذلك؛ عندما كان يتحدث بارتجال أو يتحاور في محفل نخبوي أو في الاجتماعات النخبوية؛ فإنه يحمل الآخرين على الدهشة والإعجاب الشديدين بثقافته الواسعة والموسوعية؛ بل كان هذا يساعده في تشخيص موضوعات المسائل الفقهية المستحدثة. والى جانب ذلك؛ كان لديه إلمام عميق بالقواعد الفقهية للمذاهب الإسلامية الأخرى، وأصول الفقه المقارن وعلم الحديث المقارن والتفسير المقارن.
ففي مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي؛ حيث كان الشيخ التسخيري الفقيه الشيعي الوحيد في المجمع الى جانب (55) فقيهاً تقريباً يمثلون الدول المسلمة الأخرى؛ كان الشيخ الراحل يعالج المسائل الفقهية المستحدثة المعقدة بمقاربات تثير إعجاب جميع الفقهاء، ومنها ما يتعلق بالهندسة الورائية والاستنساخ والتلقيح المجهري وقضايا التشريع القانوني والأحوال الشخصية والأسرة والحدود والتعزيرات وصلاحيات ولي الأمر ورؤية الهلال وغيرها كثير، وكان كثيراً ما يستشهد بالآراء الفقهية لأساتذته: الإمام الخميني والسيد الخوئي والسيد الصدر، فضلاً عن الفقهاء الشيعة المتقدمين، وهو ما يحدث لأول مرة في تاريخ مجمع الفقه الإسلامي، دون أن يتسبب ذلك في استفزاز أحد؛ لأن الجميع كان يحترم منطلق العلمي المقرون بالرسالية والهدفية، والسعي لتحقيق مفهوم الوحدة الإسلامية، على مستوى البحث الفقهي والأصولي والكلامي. وقد طبعت هذه الدراسات الفقهية والأصولية والكلامية التخصصية في أربعة مجلدات.
ومن الأمثلة التي يمكن سوقها في هذا المجال أيضاً؛ اجتماع الشيخ التسخيري في العام 1997 بالدكتور حسن الترابي في الخرطوم، وكان حينها الترابي مرشد الحزب الحاكم (الجبهة الإسلامية القومية) ورئيسه، ومنظر النظام، ويتمتع بهيبة وسطوة كبيرين، وكان النظام السوداني حينها يعاني من إشكاليات إنشاء الدستور الجديد وشرعيته، وكيفية ربطه بالفقه السياسي الإسلامي. في هذا الاجتماع الذي عُقد في بيت الدكتور الترابي وحضره بعض مفكري الحزب الحاكم، إضافة الى أخوة آخرين بمعية الشيخ التسخيري، وأنا أحدهم؛ تحدث الدكتور الترابي باسهاب عن الموضوع وإشكالياته. ثم تحدث الشيخ التسخيري مفصِّلاً تقنيات تشريع الدستور والجمع بين الاستناد الى الفقه الإسلامي وقواعد القانون الدستوري الوضعي، والعلاقة بخصوصيات مناخات كل بلد والتعامل مع أتباع الأديان الأخرى، وحتى المواطنين الوثنيين. وكانت عقول الحاضرين تستمع الى الشيخ التسخيري قبل آذانهم. وبعد خروجنا؛ طلب بعض قادة الجبهة الحاكمة من الشيخ التسخيري أن يحاضر عن الموضوع للقيادات والكوادر المتقدمة.
هذه الخصيصة جعلت نظرة علماء العالم الإسلامي ومفكريه الى الشيخ التسخيري لا تنحصر بوصفه عالم دين موفد من دولة بذاتها؛ بل تنظر اليه فقيهاً ومفكراً ومثقفاً تنويرياً وتجديدياً عالمياً.
3 – لباقته وأخلاقه: كان العلامة التسخيري يتمتع بقابليات فذة على الحوار والنقاش والخطابة، وبسرعة بديهة وحضور مدهش للجواب، وهي قابليات مقرونة بالتواضع والإبتسامة والخلق الرفيع، وقدرة عجيبة على امتصاص أي فعل أو رد فعل غير اعتيادي من المقابل. وبرغم كل ما تمتع به من شهرة عالمية، وصداقات واسعة على أعلى المستويات، ومسؤوليات قيادية، وتميز علمي وفكري وثقافي ومؤلفات كثيرة، إلّا أنه لم يعتد يوماً بشخصيته ولم يتعال على صغير أو كبير؛ بل كان نموذجاً للتواضع والترابية والهدوء والخلق الرفيع. وخلال ما يقرب من ثلاثة عقود ونصف من علاقة العمل معه؛ لم أره يوماً يتكلم بعصبية أو يصدر أوامر أو يوجه إهانة لأقل إنسان. وبعد أن تعرض لنكسة المرض وشلل نصف جسمه الأيمن؛ لم تفارقه هذه القابليات إطلاقاً؛ رغم ضعفه الجسمي.
وكان الشيخ التسخيري يعمد في اجتماعاته مع أية شخصية، سواء كان رئيس دولة أو رئيس حكومة أو وزيراً أو فقيهاً أو مفكراً؛ الى عدم طرح الموضوع الخاص بالاجتماع مباشرة، وخاصة إذا كان في الموضوع بعض الإشكاليات والعقد؛ بل يبدأ بالحديث العاطفي والوجداني، مع بعض الذكريات والشعر، ثم يدخل في الموضوع بعد أن يتلمس أن الحواجر النفسية واللغوية والثقافية قد بدأت تذوب تدريجياً، وأن المقابل يحس أن محدثه صديق حميم. وبذلك؛ كان غالباً ما ينجح في حل كثير من المشاكل العالقة والإشكالات المعقدة بهذا الأسلوب، حتى مع الخصوم والمقاطعين، وخاصة عندما ترى الشخصية المقابلة حجم الحب والصدق والعفوية والبشاشة في كلام هذا الشيخ العالم والمفكر.
وكمثال على ذلك؛ اجتماع شيخ الأزهر السابق المرحوم محمد الطنطاوي بالشيخ التسخيري في مقر إقامته بفندق الماريوت في القاهرة في العام 2000، وكنت حاضراً هذا الاجتماع إضافة الى أحد مستشاري الشيخ الطنطاوي. كان الأخير يطرح على الشيخ التسخيري بعض الإشكالات بشكل غير مباشر، حول ما يعرف بالمد الشيعي وأمور أخرى. والشيخ الطنطاوي معروف أيضاً بأدبه وتواضعه وخلقه الرفيع؛ فكان الشيخ التسخيري يحل كل الإشكالات واحداً تلو الآخر بأدب جم وبيان واضح بليغ؛ حتى تحول الاجتماع الى تبادل للعواطف وعبارات المحبة، مقروناً بحوار جميل حول بعض الأمور الفقهية والكلامية، وخرج الشيخ الطنطاوي مرتاحاً مبتسماً وهو يعانق الشيخ التسخيري بحرارة، ويعد بترتيب جديد للعلاقة والتواصل.
ومثال آخر حول اجتماع أحد علماء الدين التونسيين المستبصرين بالشيخ التسخيري في مكتبه خلال العام 2001، وكان هذا العالم التونسي مندفعاً من بعضهم في قم في التشكيك بعقيدة الشيخ التسخيري الشيعية؛ فكان يسأله عن رأيه بعصمة الأئمة والولاية التكوينية وزيارة القبور والإمام المهدي، وبأسلوب أشبه بالتحقيق غير المباشر، و خلال كلام الشيخ التونسي، كان الشيخ التسخيري يتوجه بنظره إليّ ــ أحياناً ــ بألم، وكأنه يقول إنظر الى هذه المظلومية، ولكن في الوقت نفسه لم ألاحظ أية علامات غضب وانفعال على وجه الشيخ، بل كان هادئاً مسترخياً، رغم يقيني أنه كان يتوجع بشدة في داخله. وحين انتهى العالم التونسي من طرح أسئلته وإشكالاته؛ أخذ الشيخ التسخيري يجيبه بهدوء وعمق؛ حتى وجدت أسارير العالم التونسي تنفتح وتتغير تقاسيم وجهه تدريجياً نحو الرضا والاقتناع. وحين انتهى الشيخ التسخيري من حديثه، أخذ العالم التونسي يذرف الدموع ويعتذر للشيخ التسخيري، ويحاول تقبيل يديه.
4- صداقاته النخبوية الواسعة: لم تتشكل صداقات الشيخ التسخيري الواسعة بالقيادات السياسية والعلمية والفكرية في دول العالم المختلفة؛ من خلال المسؤوليات الرسمية للشيخ وحسب؛ بل تشكلت خلال ستة عقود، من خلال سلوك الشيخ التسخيري وتواصله وأخلاقه وثقافته وشخصيته الجذابة؛ فلم يكن يصل مطاراً أو يدخل قاعة مؤتمر أو فندقاً أو مكتباً أو غرفة اجتماعات، في البلدان التي يزورها؛ إلًا وتجمهر أصدقاؤه حوله، من عرب ومسلمين وأجانب؛ وهم يعانقونه ويبدون عواطفهم تجاهه. وكان أحياناً يصل بصعوبة من قاعة المؤتمر الى مقر إقامته؛ بسبب حجم المتجمهرين حوله أو الذين يريدون التقاط صورة تذكارية معه؛ فكان نجماً يستحوذ على الأضواء في كل مكان يدخله.
كنا في الكويت بمعيته نحضر مؤتمراً عالمياً عن مكانة العلم في الإسلام، وكان هناك مصورون يلتقطون الصور لمن يطلب، ثم يطبعونها في اليوم نفسه ويضعونها في مكان قرب قاعة المؤتمر لينتقيها من يرغب؛ فكانت ثلاثة أرباع الصور المعروضة هي للشيخ التسخيري مع أصدقائه ومعجبيه ممن كان يطلب التقاط صورة معه.
وحين كان يزور بلداً؛ فإن مسؤولي البلد وعلماءه ومفكريه هم الذين يزورونه ـــ غالباً ــ في مقر إقامته، وكانت مواعيده مزدحمة بشدة دائماً، ولايستطيع تلبية رغبة أصدقائه بلقاءات منفردة. و كان كثير من أصدقائه في مناصب رسمية أعلى من منصب الشيخ التسخيري؛ لكنهم يكسرون البروتوكول من أجله. فمثلاً في كل زياراته الى مصر كان يزوره شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية ووزير الأوقاف ورئيس المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في مقر إقامته، والحال أن الأول بدرجة نائب رئيس وزراء، والثاني والثالث بدرجة وزير. وفي دول أخرى كان يزوره وزراء الأوقاف والخارجية والثقافة والمفتون ورؤساء الأحزاب والجماعات الإسلامية. وكان رئيس وزراء الجزائر الأسبق عبد العزيز بلخادم يعتز بصداقته بالشيخ التسخيري ويهتم به اهتماماً خاصاً لدى زيارة الشيخ الى الجزائر. والحقيقة أنهم لم يكونوا يزورون الشيخ التسخيري بصفته الرسمية أو بصفته يمثل دولة أجنبية؛ بل كانوا يزورون الصديق والإنسان.
ولاتزال واقعة نزول الرئيس الجزائري الأسبق عبد العزيز بوتفليقة من المنصة ليعانق الشيخ التسخيري؛ محفورة في عقلي، ولم تزل تثير استغرابي كلما أتذكرها. ففي مؤتمر التقريب بين المذاهب الذي عقد في فندق الأوراسي بالعاصمة الجزائر؛ افتتح الرئيس بوتفليقة المؤتمر بكلمته، بحضور ما يقرب من (700) فقيه وعالم دين ومفكر ووزير، من حوالي (60) بلداً، وكان الشيخ التسخيري يجلس في منتصف مقاعد الصف الأول، وكنت أجلس خلفه، وما أن انتهى الرئيس بوتفليقة من كلمته حتى نزل من المنصة متوجهاً صوب الشيخ التسخيري، وهو يرفع كلتا يديه مخاطباً إياه بصوت عالٍ: ((شيخنا التسخيري))، وعانق الشيخ التسخيري بحرارة، وظلا يتبادلان عبارات المحبة والأشواق، في مشهد غير متوقع أذهل كل حضور القاعة.
إن الإنجازات والفتوحات التي حققها الشيخ التسخيري خلال 60 عاماً من العمل العلمي والفكري والتبليغي، بدءاً من وطنه العراق ومدينته النجف الأشرف، حين كان تلميذاً مقرباً من أستاذه السيد الشهيد محمد باقر الصدر منذ ستينات القرن الماضي، مروراً بالكويت بعد العام 1970، وانتهاء بإيران؛ حيث محطته الأخيرة، التي تنقل منها الى اكثر من (90) دولة، وحضر أكثر من (800) ندوة ومؤتمر، وألقى أكثر من (1000) محاضرة وبحث، وألّف مايقرب من (60) كتاباً، وعضويته ورئاسته في عشرات المجامع والمؤسسات العلمية والفقهية والتبليغية؛ جعلت من الشيخ التسخيري ظاهرة إسلامية وشيعية عالمية نادرة، وليس مجرد مفكر وفقيه ومبلغ.
فلا شك؛ هناك المئات من الفقهاء والمفكرين من هم أعلم من الشيخ التسخيري، وهناك آخرون توافرت لديهم إمكانات مادية ولوجستية ومناصب أكبر بكثير مما توافر للشيخ التسخيري، بل كان بإمكان الشيخ التسخيري أن يبقى في الحوزة العلمية ليحصل على أعلى الرتب الدينية، ولكنه آثر أن يخوض بحر العمل المضني، الذي أسميناه “الحراك التبليعي العالمي النخبوي الإسلامي”، الذي أسسه وقاده لأربعة عقود تقريباً؛ ليحقق ما تعجز عنه مؤسسات وجماعات بأكملها، وليس أفراد وحسب؛ وإن كانوا أكثر منه تبحراً منه في الجانب العلمي.